فصل: الفصل السابع علم الفقه وما يتبعه من الفرائض

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل السابع علم الفقه وما يتبعه من الفرائض

الفقة هو معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقة‏.‏ وكان السلف يستخرجونها من تلك الادلة على اختلاف فيها بينهم‏.‏ ولا بد من وقوعه ضرورة‏.‏ فإن الأدلة من النصوص وهي بلغة العرب وفي اقتضا آت ألفاظها بكثير من معانيها خصوصاً الأحكام الشرعية اختلاف بينهم معروف‏.‏ وايضا فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضا‏.‏ فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها وايضاً فالوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص‏.‏ وما كان منها غير ظاهر في النصوص فيحمل على منصوص لمشابهة بينهما وهذه كلها مثارات للخلاف ضرورية الوقوع‏.‏ ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم‏.‏ ثم إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالاته بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منهم من عليتهم وكانوا يسمون لذلك القراء أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ‏.‏ وبقي الأمر كذلك صدر الملة‏.‏ ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعةً وعلماً فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء‏.‏ وانقسم الفقه فيهم إلى طريقتين‏:‏ طريقة أهل الرأي والقياس وهم أهل العراق وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز‏.‏ وكان الحديث قليلاً في أهل العراق كما قدمناه فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل أهل الرأي‏.‏ ومقدم جماعتهم الذي استقر ثم أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به‏.‏ وهم الظاهرية‏.‏ وجعلوا مدارك الشرع كلها منحصرة في النصوص والإجماع وردوا القياس الجلي والعلة المنصوصة إلى النص لأن النص على العلة نص على الحكم في جميع محالها‏.‏ وكان إمام هذا المذهب داود بن علي وابنه وأصحابهما‏.‏ وكانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة‏.‏ وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلها أصول واهية‏.‏ وشذ بمثل ذلك الخوارج‏.‏ ولم يحفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح‏.‏ فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ولا نروي كتبهم ولا أثر لشي منها إلا في مواطنهم‏.‏ فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن والخوارج كذلك ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة‏.‏ ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله ولم يبق إلا في الكتب المجلدة‏.‏ وربما يعكف كثير من الطالبين ممن تكلف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم فلا يحلو بطائل ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه‏.‏ وربما عد بهذه النحلة من أهل البدع بتلقيه العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين‏.‏ وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علو رتبته في حفظ الحديث وصار إلى مذهب أهل الظاهر ومهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم‏.‏ وخالف إمامهم داود وتعرض للكثير من أئمة المسلمين فنقم الناس ذلك عليه وأوسعوا مذهبه استهجاناً وإنكاراً وتلقوا كتبه بالإغفال والترك حتى إنها يحظر بيعها بالأسواق وربما تمزق في بعض الأحيان‏.‏ ولم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز‏.‏ فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلدته وخصوصاً مالك والشافعي‏.‏ وأما أهل الحجاز فكان إمامهم مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى‏.‏ واختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة‏.‏ لأنه رأى أنهم فيما يتفقون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم واقتدائهم وهكذا إلى الجيل المباشرين لفعل النبي صلى الله عليه وسلم الآخذين ذلك عنه‏.‏ وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية‏.‏ وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمة‏.‏ واعلم أن الإجماع إنما هو الإنفاق على الأمر الديني عن اجتهاد‏.‏ ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله وسلامه عليه‏.‏ وضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعم الملة‏.‏ ذكرت في باب الإجماع لأنها أليق الأبواب بها من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها وبين الإجماع‏.‏ إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلة واتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم‏.‏ ولو ذكرت المسئلة في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق بها‏.‏ ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحمهما الله تعالى‏.‏ رحل إلى العراق من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق واختص بمذهب‏.‏ وخالف مالكاً رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه‏.‏ وجاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله‏.‏ وكان من علية المحدثين‏.‏ وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر‏.‏ ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودرس المقلدون لمن سواهم‏.‏ وسد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم‏.‏ ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه فصرحوا بالعجز والإعواز وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به من المقلدين‏.‏ وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب‏.‏ ولم يبق إلا نقل مذاهبهم‏.‏ وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا‏.‏ ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليلده‏.‏ وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة‏.‏ فأما أحمد بن حنبل فمقلدوه قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية وللاخبار بعضها ببعض‏.‏ وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر الناس حفظاً للسنة ورواية الحديث وميلاً بالاستنباط إليه عن القياس ما أمكن وكان لهم ببغداد صولة وكثرة حتى كانوا يتواقعون مع الشيعة في نواحيها‏.‏ وعظمت الفتنة من أجل ذلك ثم انقطع ذلك عند استيلاء التتر عليها‏.‏ ولم يراجع وصارت كثرتهم بالشام‏.‏ وأما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصين وما وراء النهر وبلاد العجم كلها‏.‏ ولما كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام وكان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية وحسنت مباحثهم في الخلافيات وجاؤوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة وهي بين أيدي الناس‏.‏ وبالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي ابن العربي وأبو الوليد الباجي في رحلتهما‏.‏ وأما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار‏.‏ وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم‏.‏ ثم درس ذلك كله بدروس المشرق وأقطاره‏.‏ وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة منهم‏.‏ وكان من تلميذه بها‏:‏ البويطي والمزني وغيرهم وكان بها من المالكية جماعة من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم وابن المواز وغيرهم‏.‏ ثم الحارث بن مسكين وبنوه ثم القاضي أبو إسحق بن شعبان وأصحابه‏.‏ ثم انقرض فقه أهل السنة والجماعة من مصر بظهور دولة الرافضة وتداول بها فقه أهل البيت وكان من سواهم يتلاشوا ويذهبوا‏.‏ وارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد آخر المائة الرابعة على ما أعلم من الحاجة والتقليب في المعاش‏.‏ فتأذن خلفاء العبيديين بإكرامه وإظهار فضله نعياً على بني العباس في اطراح مثل هذا الإمام والاغتباط به‏.‏ فنفقت سوق المالكية بمصر قليلاً إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب فذهب منها فقه أهل البيت وعاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم ورجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام فعاد إلى أحسن ما كان ونفقت سوقه‏.‏ واشتهر فيهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام وعز الدين بن عبد السلام أيضاً ثم ابن الرفعة بمصر وتقي الدين بن دقيق العيد ثم تقي الدين السبكي بعدهما‏.‏ إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد وهو سراج الدين البلقيني فهو اليوم كبير الشافعية بمصر لا بل كبير العلماء من أهل العصر‏.‏ وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس‏.‏ وإن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم‏.‏ والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى العراق ولم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة‏.‏ وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده‏.‏ فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته‏.‏ وأيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة‏.‏ ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب‏.‏ ولما صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم‏.‏ وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة واتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا‏.‏ وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد‏.‏ وأهل المغرب جميعاً مقلدون لمالك رحمه الله‏.‏ وقد كان تلاميذه افترقوا بمصر والعراق فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويز منداد وابن اللبان والقاضي أبو بكر الأبهري والقاضي أبو الحسين بن القصار والقاضي عبد الوهاب ومن بعدهم‏.‏ وكان بمصر ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم والحارث بن مسكين وطبقتهم‏.‏ ورحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي ولقي مالكاً‏.‏ وروى عنه كتاب الموطأ وكان من جملة أصحابه‏.‏ ورحل بعده عبد الملك بن حبيب فأخذ عن ابن القاسم وطبقته وبث مذهب مالك في الأندلس ودون فيه كتاب الواضحة‏.‏ ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية‏.‏ ورحل من إفريقية أسد بن الفرات فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً ثم انتقل إلى مذهب مالك‏.‏ وكتب علي بن القاسم في سائر أبواب الفقه وجاء إلى القيروان بكتابه وسمي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات فقرأ بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه وعارضه بمسائل الأسدية فرجع عن كثير منها‏.‏ وكتب سحنون مسائلها ودونها وأثبت ما رجع عنه منها وكتب معه ابن القاسم إلى أسد أن يمحو من أسديته ما رجع عنه وأن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك فترك الناس كتابه واتبعوا مدونة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمى المدونة والمختلطة‏.‏ وعكف أهل القيروان على هذه المدونة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبية‏.‏ ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة والمختلطة في كتابه المسمى بالمختصر ولخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب واعتمده المشيخة من أهل إفريقية واخذوا به وتركوا ما سواه‏.‏ وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية وهجروا الواضحة وما سواها‏.‏ ولم يزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الامهات بالشرح والإيضاح والجمع فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم‏.‏ وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد وأمثاله‏.‏ وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الامهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر‏.‏ فاشتمل عين جميع أقوال المذاهب وفرع الامهات كلها في هذا الكتاب‏.‏ ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة وزخرت بحار المذهب المالكي في الآفقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان‏.‏ ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك أ إلى ان جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب وتعديد أقوالهم في كل مسئلة فجاء كالبرنامج للمذهب‏.‏ وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين وابن المبشر وابن اللهيت وابن رشيق وابن شاس‏.‏ وكانت بالإسكندرية في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله‏.‏ ولم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية‏.‏ ولما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة عكف عليه الكثير من طلبة المغرب وخصوصا أهل بجاية لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب‏.‏ فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك فجاء به وانتشر بقطر بجاية في تلميذه ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية‏.‏ وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه‏.‏ وقد شرحه جماعة من شيوخهم كابن عبد السلام وابن رشد وابن هارون وكلهم من مشيخة أهل تونس وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم‏.‏ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

  الفصل الثامن علم الفرائض

وأما علم الفرائض وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة من كم تصح باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها‏.‏ وذلك إذا هلك أحد الورثة وأنكرت سهامه على فروض ورثته فإنه حينئذ يحتاج إلى حسبان يصحح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعاً في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة‏.‏ وقد تكون هذه المناسخات أكثر من واحد واثنين وتتعدد كذلك بعدد أكثر‏.‏ وبقدر ما تتعدد تحتاج إلى الحسبان وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهيبن مثل أن يقر بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ‏.‏ وينظر مبلغ السهام ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة‏.‏ وكل ذلك يحتاج إلى الحسبان فأفردوا هذا الباب من أبواب الفقه لما اجتمع فيه إلى الفقه من الحسبان‏.‏ وكان غالبا فيه وجعلوه فناً مفرداً‏.‏ وللناس فيه تآليف كثيرة أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي ومن متأخري إفريقية ابن النمر الطرابلسي وأمثالهم‏.‏ وأما الشافعية والحنفية والحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه والحساب وخصوصأ أبا المعالي رضي الله تعالى عنه وأمثاله من أهل المذهب‏.‏ وهو فن شريف لجمعه بين المعقول والمنقول والوصول به إلى الحقوق في الوراثات بوجوه صحيحة يقينية عندما تجهل الحظوظ وتشكل على القاسمين‏.‏ وللعلماء من أهل الأمصار بها عناية‏.‏ ومن المصنفين من يحتاج فيها إلى الغلو في الحساب وفرض المسائل التي تحتاج إلى استخراج المجهولات من فنون الحساب‏:‏ كالجبر والمقابلة والتصرف في الجذور وأمثال ذلك فيملؤون بها تآليفهم‏.‏ وهو وإن لم يكن متداولأ بين الناس ولا يفيد فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته وقلة وقوعه فهو يفيد المران وتحصيل الملكة في المتداول على أكمل الوجوه‏.‏ وقد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه ان الفرائض ثلث العلم وأنها أول ما ينسى وفي رواية‏:‏ نصف العلم خرجه أبو نعيم الحافظ‏.‏ واحتج به أهل الفرائض بناء على أن المراد بالفرائض فروض الوراثة‏.‏ والذي يظهر أن هذا المحمل بعيد وأن المراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات والعادات والمواريث وغيرها‏.‏ وبهذا المعنى يصح فيها النصفية والثلثية‏.‏ وأما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى علوم الشريعة كلها‏.‏ ويعني هذا المراد أن حمل لفظ الفرائض على هذا الفن المخصوص أوتخصيصه بفروض الوراثة إنما هو اصطلاح ناشىء للفقهاء عند حدوث الفنون والاصطلاحات‏.‏ ولم يكن صدر الإسلام يطلق هذا اللفظ إلا على عمومه مشتقا من الفرض الذي هو لغة التقدير أو القطع‏.‏ وما كان المراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه وهي حقيقته الشرعية فلا ينبغي أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

  الفصل التاسع أصول الفقه

وما يتعلق به من الجدل والخلافيات إعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدراً وأكثرها فائدة وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف‏.‏ وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن ثم السنة المبينة له‏.‏ فعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الأحكام تتلقى منه بما يوحى إليه من القرآن ويبينه بقوله وفعله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس‏.‏ ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر‏.‏ وأما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولا أو فعلا بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه‏.‏ وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار ثم تنزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم‏.‏ ولا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة فصار الإجماغ دليلاً ثابتاً في الشرعيات‏.‏ ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقيسون الأشباه منها بالأشباه‏.‏ ويناظرون الأمثال بالامثال بإجماع منهم وتسليم بعضهم لبعض في ذلك‏.‏ فإن كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسموها بما ثبت وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين‏.‏ حتى يغلب على الظن ان حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه وهو القياس وهو رابع الأدلة‏.‏ وأتفق جمهور العلماء على أن هذه هي اصول الأدلة وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس إلا أنه شذوذ‏.‏ وألحق بعضهم بهذه الأدلة الأربعة أدلة اخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها لضعف مداركها وشذوذ القول فيها‏.‏ فكان من أول مباحث هذا الفن النظر في كون هذه أدلة‏.‏ فأما الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه والتواتر في نقله فلم يبق فيه مجال للاحتمال‏.‏ وأما السنة وما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصح منها كما قلناه معتضدا بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه من إنفاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام والشرائع أمراً وناهياً‏.‏ واما الإجماع فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للآمة‏.‏ وأما القياس فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه‏.‏ هذه اصول الآدلة‏.‏ ثم إن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنظر في طرق النقل وعدالة الناقلين لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه الذي هو مناط وجوب العمل بالخبر‏.‏ وهذه أيضاً من قواعد الفن‏.‏ وبلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين وطلب المتقدم منهما معرفة الناسخ والمنسوخ وهي من فصوله أيضاً وأبوابه‏.‏ ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالات الألفاظ وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقف طى معرفة الدلالات الوضعية مفردةً ومركبةً‏.‏ والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان‏.‏ وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علومأ ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذ‏!‏ يحتاج إليها لأنها جبلة وملكة‏.‏ فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة وصارت علومأ يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى‏.‏ ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام وهي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة بين تراكيب الكلام وهو الفقه‏.‏ ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصل أهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة‏.‏ مثل أن اللغة لا تثبت قياساً والمشترك لا يراد به معنياً معاً والواو لا تقتضي الترتيب والعام إذا أخرجت أفراد الخاص منه هل يبقى حجة فيما عداها والأمر للوجوب أو الندب وللفور أو التراخي والنهي يقتضي الفساد أو الصحة والمطلق هل يحمل على المقيد والنص على العلة كاف في التعدد أم لا وأمثال هذه‏.‏ فكانت كلها من قواعد هذا الفن‏.‏ ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية‏.‏ ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاسس ويماثل من الأحكام وتنقيح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علق به في الأصل من تبين أوصاف ذلك المحل أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه إلى مسائل أخرى من توابع ذلك كلها قواعد لهذا الفن‏.‏ واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية‏.‏ وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً فعنهم أخذ معظمها‏.‏ وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم بهم‏.‏ فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل احتاح الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه‏.‏ وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه‏.‏ أملى فيه رسالتة المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس‏.‏ ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها‏.‏ وكتب المتكلمون أيضاً كذلك إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية‏.‏ والمتكلمون يجردون صور تلك المسائهل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن‏.‏ وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه‏.‏ وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب البرهان لإمام الحرمين والمستصفى للغزالي وهما من الأشعرية‏.‏ وكتاب العهد لعبد الجبار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة‏.‏ وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه‏.‏ ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكفمين المتأخرين وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام‏.‏ واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج‏.‏ فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج والأمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريغ المسائل‏.‏ وأما كتاب المحصول فاختصره تلميذ الإمام مثل سراج الدين الأموي في كتاب التحصيل وتاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل‏.‏ واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات‏.‏ وكذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج‏.‏ وعني المبتدئون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من الناس‏.‏ وأما كتاب الإحكام للآمدي وهو أكثر تحقيقاً في المسائل فلخصه أبو عمرو بن الحاجب في كتابه المعروف بالمختصر الكبير‏.‏ ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم وعني أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه‏.‏ وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات‏.‏ وأما طريقة الحنفية فكتبوا فيها كثيراً وكان من أحسن كتابة المتقدمين فيها تأليف أبي زيد الدبوسي وأحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم وهو مستوعب‏.‏ وجاء ابن الساعاتي من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب الأحكام وكتاب البزدوي في الطريقتين وسمى كتابه بالبدائع فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونة قراءة وبحثاً‏.‏ وأولع كثيرمن علماء العجم بشرحه‏.‏ والحال على ذلك لهذا العهد‏.‏ هفه حقيقة هذا الفن وتعيين موضوعاته وتعديد التآليف المشهورة لهذا العهد فيه‏.‏ والله ينفعنا بالعلم ويجعلنا من أهله بمنه وكرمه إنه على كل شي قدير‏.‏ الخلافيات وأما الخلافيات فاعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافاً لا بد من وقوعه لما قدمناه‏.‏ واتسع ذلك في الملة اتساعاً عظيماً وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم‏.‏ ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار وكانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته وتشعب العلوم التي هي مواده باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة‏.‏ فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة وأجري الخلاف بين المتمسكين بها والأخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية‏.‏ وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده وتمسك به‏.‏ وأجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه‏:‏ فتارة يكون الخلاف بين الشافعي ومالك وأبو حنيفة يوافق أحدهما وتارة يكون مالك وأبي حنيفة والشافعي يوافق أحدهما وتارة بين الشافعي وأبي حنيفة ومالك يوافق أحدهما‏.‏ وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم‏.‏ كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات‏.‏ ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته‏.‏ وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه‏.‏ وتآليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النظر والبحث‏.‏ وأما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر‏.‏ وأيضاً فأكثرهم أهل المغرب وهم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل‏.‏ وللغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ ولأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص جلبه من المشرق ولأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة ولابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدله وقد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي مدرجاً في كل مسألة منه ما ينبني عليها من الخلافيات‏.‏ الجدال وأما الجدل وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج‏.‏ ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول وكيف يكون حال المستدل والمجيب وحيث يسوغ له أن يكون مستدلاً وكيف يكون مخصوصاً منقطعاً ومحل اعتراضه أو معارضته وأين يجب عليه السكوت لخصمه الكلام والاستدلال‏.‏ ولذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره‏.‏ وهي طريقتان‏:‏ طريقة البزدوي وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال وطريقة العميدي وهي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان وأكثره استدلالاً‏.‏ وهو من المناحي الحسنة والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة‏.‏ وإذا اعتبرتا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي والسوفسطائي‏.‏ إلا أن صور الأدلة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي‏.‏ وهذا العميدي هو أول من كتب فيها ونسبت الطريقة إليه‏.‏ وضع الكتاب المسمى بالإرشاد مختصراً وتبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي وغيره جاؤوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطريقة التآليف‏.‏ وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الأمصار الإسلامية‏.‏ وهي مع ذلك كمالية وليست ضرورية‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏